كان هذا اللقاء منذ ١٧ عام، هو آخر لقاء جمعني بالنقيب العام الراحل رجائي عطية، بمناسبة افتتاح مكتب صديقي العزيز عادل بك عبد المجيد، المحامي بالمطرية.. اخترت بعدها أن ابتعد عنه مسافة انسانية كافية آمنة، تسمح للرجل بممارسة كبريائه بعيداً عني.. فما زلت شاباً أفهم حينها أن للمحاماة أدبيات متبادلة، لعلها أعظم تجسيد حقيقي للحديث الشريف {ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا}.
مسيرة الأستاذ الكبير مسيرة حافلة بالعطاء للمحاماة.. وهي في جوهرها عطاءٌ للمحامين أنفسهم.. ذلك أن المحاماة رسالة إنسانية.. هي رسالة الحق.. ولا رسالة بغير رسول وكتاب.
والحقيقة.. أنني لم أدعم الرجل في مضمار العمل العام من قبل.. لأن الجمع بين المحاماة والشأن العام ضرورة حتمية لمن أراد أن يتوسد مقاعد النقابة العريقة.. والحس النقابي والسياسي فيهم لا ينفك عن ممارسة المهنة وأداء الرسالة.
رأيت الرجل منذ الانطباع الأول عالماً فذاً عملاقاً.. متفوهاً متفرداً.. شاءت الأقدار أن ينافس على مقعد النقيب العام بعد حراسة قضائية فرضها النظام المصري على النقابة الأم عقب صدامات كبرى في التسعينيات.. أدت تلك الصدامات وتلك الحراسة إلى أن تشتد كراهة المحامين للحكومة والنظام السياسي ورجاله وممثليه.
تلبس رجائي ثوب رجل الدولة طوعاً وكرهاً.. وأتى عاشور تحت صيت المعارضة من رحم ولادة شرعية لميراث النقيب أحمد الخواجة.. وكان حتماً مقضياً أن يعاقب المحامون من فرض عليهم الحراسة القضائية في شخص رجائي عطية.. فاسقطوه وأقاموا جدار الإستبداد من حيث لا يشعرون.
شهدت الدورة الأولى في الألفية الجديدة عقب الحراسة تفاعلاً جباراً من كافة قطاعات المحامين على مختلف إنتماءاتهم ومشاربهم ومذاهبهم وأعمارهم.. لجان نقابية هنا وهناك.. واتحادات وأُسر وروابط.. وأصبح ديوان النقابة العامة قبلة الجميع غدواً ورواحاً بعد انتهاء أعمالهم.
الكل في شوق لنقابة المحامين بعد طول غياب بضع سنين.
أستطيع أن أقول وبحق.. أنها أطول معركة انتخابية في تاريخ المؤسسات المدنية المصرية.. تنافساً إنتخابياً ضارياً بين دفتي المنافسة (عاشور – الإخوان) منذ إعلان فوز النقيب عاشور، وحتى موعد إعادة انتخابه في دورة أخرى عام ٢٠٠٥.. في غرف النقابات بالمحاكم وقاعات الجلسات والمقاهي والمكاتب.. سجالات ومبارزات وحشد وتفريق.. ومؤتمر في محافظة ومعسكر في أخرى.. ورحلات.. وإنفاق لا ينقطع على الإعانات والمعونات والمآدب والولائم.
صب هذا كله في مصلحة المحامى.. الذي وصل الحال بأي مريض في نقابة المحامين تحت المظلة العلاجية أن تتحمل النقابة كامل تكلفة علاجه دون أن يدفع مليماً واحداً.
دارت انتخابات ٢٠٠٥.. وتقدم إليها مرة أخرى رجائي عطية في مواجهة عاشور.. ووقتها تردد في ربوع مصر أن رجائي إذا حضر مؤتمراً متحدثاً لمناصريه.. خرج منه خاسراً محبة وتعاطف أكثر من نصفهم على أقل تقدير.
وهي عبارة صادفت الكثير من الواقع في معناها ومراميها.. هو لا يليق بالعمل العام ذو الطابع الجماهيري.. يستطيع أن يتوسد أي مقعد مسئولية عن طريق التكليف أو التعيين لا الإنتخاب.. إنه يفتقد الذكاء الإجتماعي فيما يجب قوله ومتى يقوله وفي أي مناسبة.. وهكذا.. ذهب قطاع من مؤيديه إلى ضفة عاشور دون عناء منه أو مشقة.
لم يكن خطاب الرجل مقبولاً عند القطاعات التي تشبعت بملائمات وموائمات النقيب الخواجة كأطول عهد لنقيب في تاريخ نقابة المحامين.. فقد كان الخواجة نسخة شمولية بامتياز في ثياب ليبرالية لرجل يقبل القسمة على كل الأطياف والألوان داخل بيت المحاماة.
استفاد عاشور بذكاء ودهاء ومكر مكتسب من خبرات العشرين عاماً التي قضاها بين عضوية النقابة ومقعد النقيب في أن يحتوي الأعداد الغفيرة التي غادرت معسكر رجائي لصالحه.. وتمكن من أن يجهز عليه بفارق ضخم ١٦٠٠٠ صوت.
تبين على سبيل اليقين من معركتين متتاليتين أن رجائي شديد العناد والتصميم.. ما في رأسه في رأسه.. لا يغير أسلوبه ولا طريقته.. لا يقبل النقد أو النقاش.. لذلك.. حسم الجيل الذي احتك به عن قرب مواقفه من رجائي في كل المرات التالية.. نقيب بلا سابقة نقابية تنتخبه على علاته.
غر الفارق المرعب بين رجائي وعاشور الأخير، فازداد كبراً على كبر.. وتعالياً وزهواً استمر طيلة الفترة من ٢٠٠٥ حتى ٢٠٠٩.. فأسقطه غروره وثقته المفرطة في ذاته ونجح نقيب نقابة الجيزة الفرعية نكاية فيه وعقاباً له على ما قدم.
سبق ذلك بعام، تقدم عاشور بتعديلات عجيبة في قانون المحاماة افقدته رجاله من المادة الأولى التي قامت بسببها مظاهرة في ميدان التحرير قبض على المشاركين فيها منذ الدقيقة الأولى من أمام مجمع التحرير وبجوار فتحات محطة مترو أنفاق أنور السادات.
ألغيت المادة الأولى بعد ضغط كبير وتقدم الجوجري وعبد الاحد جمال الدين بمشروع عاشور وتم تمريره.. بعد أن قضي تسع سنوات في مقعد النقيب.
تولت إدارة نقابة المحامين لجنة مؤقتة تشكلت من فريق من المستشارين القضائيين.. رفعت السيد و عادل زكي أندراوس وآخرون.. كشفوا خلالها عن عورات الدورة المستندية داخل النقابة.. واقحموا في صراع مرير قاسي مع عاشور.. ومواجهات صعبة.
تحت ظل اللجنة القضائية تقدم رجائي للإنتخابات للمرة الثالثة في ٢٠٠٨.. جنباً إلى جنب مع طلعت السادات و سامح عاشور.. سطع نجم السادات بين الشباب ودنا له المقعد.. غير أن الانتخابات تم وقفها بحكم القضاء الإداري.. وفتح الباب من جديد وأفل نجم السادات وعلا نجم رجائي في مواجهة سامح.. فتم وقف الانتخابات للمرة الثانية.. ثم حدثت المناظرة التليفزيونية الشهيرة بين رجائي وعاشور.. اسقطتهما جماهيرياً معاً.. ثم ما لبث عاشور إلا وأن قدم لخصومه الخنجر الذي طعنه.. بيان أصدره على ورق مكاتبات النقابة وبشعارها يهجو حمدي خليفة.. وتلقف الإخوان الفرصة وقبضوا عليها بقبضة من فولاذ وقاموا بتحويل دفة الدعم من رجائي إلى حمدي خليفة.. وعبر خليفة إلى المقعد الكبير من أوسع أبوابه على حساب اللاعبين الكبار.
قامت الثورة.. وامتنع خليفة عن دخول النقابة العامة خوفاً من المحامين بعد نجاحه على قوائم الوطني في المقعد النيابي بمجلس الشورى.. وطعن من طعن على المجلس وتم حله بعد جلسة شهيرة طارد فيها المحامون خليفة من قاعة المحكمة إلى غرفة المحامين إلى بوفيه الغرفة والفرار من شباكها إلى طرقة خلفية وغادر وجمع معه إلى مكان غير معلوم حتى حين.. وأجريت انتخابات نوفمبر ٢٠١١ وأعادت عاشور بعد فاصل عامين إلى ملعب نقابة المحامين.
مرت انتخابات ٢٠١٥ بدون ترشح رجائي عطية.. والذي بدا أنه قد توارى إلى الأبد بعد خصومة تاريخية مع عاشور.. توارى إلى الأبد بفعل الغياب وبفعل العمر.
غير أن أقدار الله أعادته للمشهد المعجزة من بعد موات.. ها هو الخصم التاريخي الشيخ العجوز بعد أن جاوز الثمانين من عمره يوجه ضربة قاضية في وقت ضائع إلى عاشور.. الذي كرر ذات ممارسات وأفعال دورة ٢٠٠٨.
تسع سنوات من ٢٠٠٠ إلى ٢٠٠٩ حتى تم الإطاحة بعاشور في مواجهة حمدي خليفة.. وتسع سنوات من ٢٠١١ إلى ٢٠٢٠ حتى تم الإطاحة بعاشور في مواجهة رجائي عطية.. ثم تعديل قانون المحاماة في ٢٠٠٨ قبل الإطاحة الأولى بعام واحد.. وتعديل قانون المحاماة في ٢٠١٩ قبل الإطاحة الثانية بعام واحد.
عشرون عاماً تنافساً انتخابياً منذ عمر إثنين وستين سنة وحتى فوزه بمقعد النقيب في عمر إثنين وثمانين سنة.. ياللحياة وعجائبها..!!
جاء عطية ليحمل تركة شديدة الثقل وعظيمة العبء.. ومن شوءم الطالع غلق العالم بأسره في ذات يوم إعلان النتيجة وتوليه المنصب.. الخميس ١٩ مارس ٢٠٢٠ مصر تعلن رجائي عطية نقيباً للمحامين وحظر التجوال بعد السابعة مساء.
بدا منذ الأيام الأولى افتقاد الرجل للحس والشعور النقابي تفاعلاً مع أزمات المحاماة الضارية القاسية.. وظهر للكافة الفارق الشاسع بين المحامي المهني الفذ الذي لم يتمرس مطلقاً في مضمار العمل العام بألوانه السياسية الحزبية والنقابية.
رأيت أن دور هذا الرجل التاريخي ربما يكون قد ساقه له الله في تفكيك شبكات عاشور التي كونها عبر ٣٢ عاماً شغلها في مراكز اتخاذ القرار بالنقابة العامة.. وهي مهمة مستحيلة وعصية.. وتحتاج جهداً مؤسسياً جباراً.. ومعارك متتالية لا تنكس راياتها ولا ينكسر سيوف محاربيها.
لعب دوراً هاماً غريباً مفصلياً مفاجئاً في مواجهة خروج النقابات الفرعية عن القضبان.. واستخدم عناده في فرض كلمته.. التي سبقتها كلمة الأجل.
الحقيقة أن غرابة النهاية وروعتها تقطع بأن ثم أمور بينه وبين ربه لم نتبينها.. هي كجندي استكثرنا ارتداءه زي الجندية فإذا به يرفع علم الصدق على ضفة مقدسة ويسقط شهيداً.. من منا يحلم أن تكون نهايته في قمة الهرم المهني والنقابي نقيباً مدافعاً عن قضية مهنية نقابية حملت أسماء عضو عامة وفرعية ونشطاء نقابيون ومهنيون ومحامون بارزون ومحاميات فضليات.
أنه تجسيد لصدق النوايا يعز على أصحاب البلاغة والبيان وصفه.. وإنها لكرامة حباه الله بها أبد الدهر لم ينالها أحد ممن سبقه كعلامة فارقة بين أهل الدنيا والآخرة.
نودع رجائي عطية وتبقى كتبه ورسالته التي أخلص لها واتقنها في عمله فأكرمه الله في موته ورحيله بما يستحق.
ما أروع إستقباله الموت.. ما أروع كلماته التي تركها إرثاً خالداً وعملاً لا ينقطع كما قال المصطفى (علم ينتفع به)
رحل رجائي الأستاذ الكبير القدير في مشهد مهيب وصورة من خالدات صور شهداء الواجب.. كأعز ما تكون صورة إنسان يحمل رسالة هي أسمى رسالات الله.. رسالة الحق.. رسالة المحاماة.
رجائي_عطية